
يحاوره:
د. محمد قاسمي[2] ذ. يوسف عكراش[3]
تقديم:
بداية نرحب بكم حضرة الدكتور محمد هندو، ونشكركم على قبول الدعوة لإجراء هذا الحوار العلمي، ومما لا يخفى على فضيلتكم أنهيمكن وصف الصحوة الأصولية والفقهية المعاصرة بأنها صحوة مقاصدية أعادت للفكر المقاصدي وقواعده مكانه الأصل في مراتب النظر الفقهي والأصولي في علاقتهما بمستجدات ونوازل العصر، وهي صحوة تفتقت بنشر كتاب الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي -رحمه الله- وما تلاه من المؤلفات المؤسِّسة على نحو ما كتبه العلامة الطاهر ابن عاشور والأستاذ المناضل علال الفاسي، وما تبع ذلك من الدراسات الجادة والقاصدة، بما في ذلك مشروع تأصيل نظرية المقاصد من خلال جهود هؤلاء الأعلام المؤسسين وغيرهم.
ثم تتابع التأليف لاستخلاص الفكر المقاصدي من مظانه المباشرة وغير المباشرة، وكذا تتبع علائق هذا الفكر في مجالات معرفية متنوعة جامعة بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية، مما شكل ثروة مهمة في الباب، تحتاج من الدارسين إلى تقويم واستثمار واستشراف،ولعل من حسنات هذه الصحوة اهتمامها بالفقه الكلي والحضاري بدل اجترار الفقه التقليدي بمسائله ومقرراته المستقرة في مظانه.
ولتكثيف الحديث العلمي في الموضوع وبيان معاقده وقواعده ومنطلقات تثميره واستشراف تأثيره في الفكر والمعرفة والمناهج، نبدأ بالسؤال الآتي:
- عادة ما نستهل حواراتنا بسؤال الماهية باعتباره المقدمة الرئيسية لكل لقاء، فما المفهوم الذي نجده عند فضيلتكم للفقه الكلي الحضاري والاجتهاد المقاصدي المعاصر في ظل ما زخرت به الساحة العلمية من مفاهيم عدة؟
فسعيد بهذا التواصل العلمي الراقي، من قِبَل هذه النخبة العلمية المؤطّرة لمجلة نماء؛ هذه المجلة، والمؤسسة بصفة عامة، التي أعادت -مع مثيلاتها في الوطن المغاربي خصوصا، والعربي الإسلامي عموما- للنشاط العلمي جدّيته، وبريقه، وتأثيره في ميادين الفكر والثقافة والعلوم الإسلامية، وقد كاد هذا المستوى يضمحلّ لولا أمثال هذه الجهود التي نسأل الله تعالى أن يبارك فيها.
أمّا الفقه الكلّي الحضاري، فيمكن تحديده؛ بأنه المعرفة التي تُعْنى بتحليل وفهم القضايا الكبرى في العلوم التي مصدرها الوحي أوّلا، والكون ثانيا، والتجربة الإنسانية ثالثا، بحيث تقود تلك المعرفة إلى تشكيل العقل الإسلامي، والضمير الإسلامي، والعمل الإسلامي تشكيلاً تجديديًا، ليمارس حركة هدائية راشدة، نحو تحقيق دورة حضارية جديدة للأمة، وللإنسانية.
فليس المقصود بكلمة (الفقه) في هذا السياق المعنى الفنّي، والاصطلاحي، المخصوص بميدان فهم الخطاب الشرعي المتعلق بأفعال المكلفين، اقتضاء أو تخييرا أو وضعا. بل المقصود معناها الواسع، وهو الفهم والمعرفة.
وصفة (الكلية) قيد يحترز به عن المعرفة المنحصرة في الاعتبارات والعوارض والحيثيات المتجزئة على الوقائع والأشخاص والأزمنة والأمكنة، وغيرها من خصوصيات الأحوال، من غير أن يهتدي المنشغل بها إلى القواعد الجملية الناظمة لتلك الجزئيات في أنساق كلية متحدة من حيث المعنى.
وفي ضوء هذا المفهوم يأتي علم مقاصد الشريعة الإسلامية، بوصفه واحدًا من العلوم الفنّية (الاصطلاحية) التي تُعْنى باستخلاص الأنساق الغائية المتعلّقة بجانب من جوانب المعرفة الإسلامية، ألا وهو خطاب الشّارع المتعلّق بأفعال المكلّفين، وما يستفاد منه من اقتضاء وتخيير ووضع.
فمقاصد الشّريعة؛ ليست وحدها (الفقه الكلي الحضاري)، بل هي وحدة من أهمّ وحداته.
وأحبّ التفريق بين مقاصد الشّريعة، ومقاصد الدّين، ومقاصد الخلق. فالشّريعة هنا معناها خاصّ، وهو الجانب القانوني والقضائي في الإسلام، أي ما يتعلّق بإجراء أحكام المعاملات المختلفة بين الناس، المالية وغير المالية،أي مصالح الدنيا التي هي مظنّة التشاحّ والتنازع، وهذه هي التي قال الأصوليون: إنّ مقاصدها تُستجمَع في الكليات الأربع: النفس، والعقل، والنسل، والمال.
أمّا الدّين فهو عموم ما جاء به الإسلام من الهداية في المعتقد والتشريع والآداب، أو هو الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلى هذا؛فكلّية حفظ الدّين؛الأليق أن تكون قسمًا لا قسيمًا، فهي دائرةٌ أعلى من الأنساق الأربعة الأخرى، إذ إنّ حفظ المصالح الدنيوية إنّما هو قاعدة لحفظ الدّين، ومقاصد العقائد والعبادات والأخلاق؛ يجدر أن تندرج هنا.
وأمّا الخلق فهو أوسع من ذلك؛ إذ يشمل حكمة الله في الإيجاد والتصريف، ويشمل استخلاص سنن الله في الأنفس والآفاق.
وبهذا التصنيف ونحوه؛ تُحلّ في نظري جدلية إضافة كلّيات جديدة إلى الكلّيات الخمس، فبعض ما اقتُرح إضافته من كلّيات؛ الأقرب أنه يندرج في الأنساق الأعلى من مقاصد القانون الإسلامي، فهي تندرج في نسق مقاصد الدّين، أومقاصد الخلق، وهذا التقسيم مهمٌّ من الناحية الوظيفية للعلوم، إذ لكلّ علمٍ وظيفته، وثمرته العملية، وينبغي أن يكون التقصيد مرتبطًا بالثمرة المرجوّة من دراسة علم من العلوم، ولا يكون تنظيراً مقطوع الصّلة بذلك، كما ينبغي ألّا يُحمَّل علمٌ من العلوم فوق ما يُقْصَد من وظيفته وثمرته العملية.
ومن هذا المنظور؛ يتبيّن أنّ البحث في مقاصد الشّريعة بمعناها الخاصّ المذكور آنفا؛ ينحصر في الغاية الفنّية لهذا المفهوم الخاص، ولنا إذا أردنا توسيع دائرة استخلاص الأنساق الغائية الكلية، أن نفعل ذلك في ميدان فقه الدّين، وميدان فقه الخلق والسنن.
ومصطلح الاجتهاد المقاصدي؛ هو أقرب من حيث التداول والاستعمال إلى المفهوم الفنّي الخاصّ، أمّا تقصيد الدّين، وتقصيد خلق الخلق؛ فيمكن أن نستعمل فيه مصطلحات أخرى من قبيل: فقه الكلّيات، وفقه المقاصد العالية، ومقاصد المقاصد، والفقه السنني، والفقه الحضاري، ونحوها.
لا شكّ أنّ للجانبالتقييمي أهمية كبرى في معرفة مسار المسالك البحثية ومصيرها قديما وحديثا، والفقه الإسلامي ضرب من هذه المسالك، فكيف ترون حصيلة المسار البحثي المعاصر في الفقه الإسلامي؟ وما موقع الفقه الحضاري في خارطة هذا المسار؟
أعتقد أنّه لم تخدم أمّةٌ علومَها كما خدمت أمّة الإسلام علومها، وهذا موضع فخر واعتزاز لكلّ مسلم، لكن يجب أن نفرّق بين الاعتزاز بالذروة الحضارية التي بلغتها أمّتنا في التاريخ، وبين الاعتراف بالانحطاط الحضاري الذي تعيشه أمّتنا في الحاضر، وما يقع على عاتقنا من واجب النهوض من هذا الانحطاط.
ولا شكّ أنّ مسار العلوم الإسلامية أصيب بما أصيبت به الأمّة من الركود والجمود، بل يمكن القول: إنّ التعليم الإسلامي فَقَد البوصلة والاتجاه -في الجملة-، وهو حالياً يعيش حالةً هجينةً بين اقتفاء أثر المناهج العلمية والتعليمية التي سلكتها الأمة زمن ازدهارها، إذْ إنّنا نطرح سؤال: هل استنساخ تلك المناهج حرفيًّا مناسب لزماننا اليوم؟ واقتفاء أثر الحضارة الغربية في مناهجها العلمية والتعليمية بالنظر إلى هيمنتها، إذْ إنّنا نطرح السؤال أيضا: هل استنساخها حرفيًّا مناسبٌ لخصائص الأمة، وطموحاتها؟ ورغم وجود مقاربات ومبادرات عديدة لإصلاح التعليم الإسلامي، إلاّ أنّنا لم نصل بعد إلى التوليفة الدقيقة والمناسبة.
وتقييم واقع البحث في العلوم الإسلامية هو فرع هذه الحالة؛ لأنّ الباحث إنّما هو ابن المنظومة التعليمية، فهي التي تكوّن شخصيته العلمية، وتصنع فكره، وتوجّه اهتماماته، ويمكن القول: إنّ واقع البحث في العلوم الإسلامية يتراوح بين التقصير البيّن، وهو الحالة الأعمّ والأغلب، وبين جهود مشكورة؛ فردية أحيانًا، ومؤسّسية أحيانا أخرى، تعمل على استنهاض البحث العلمي، وتقدّم أعمالاً جادّةً تخدُمه وترقّيه.
فأمّا مظاهر التقصير؛ فأبرزها:
- واقع الجامعات الإسلامية، ورغم أنّ فكرة (الجامعة الإسلامية) فكرةٌ جديدةٌ ومستحدثة، إذ إنّ التعليم الإسلامي إنّما كان في الجوامع وحلقات الشيوخ، ولم تكن تُسلَك فيه مسالك نظامية، ورغم أنّ (الجامعة الإسلامية) حقّقت في بدايات تأسيسها نجاحات، وخرّجت نماذج من الباحثين في مستوى العلماء، إلاّ أنّ ذلك لم يدم طويلاً، ونحن نواكب اليوم عصر تراجع مستوى الجامعة الإسلامية، وحتّى تلك الجامعات النموذجية التي كانت مضرب المثل في تكوين العلماء؛ لم تعد بتلك السّمعة.
- مؤسسات ومخابر البحث ضئيلة جدًّا، بالنّسبة للتحدّيات التي تواجه الأمّة، والموجود منها لا ينتج شيئا ذا بال، بل غالب إنتاجاته تصنّف ضمن تدوير المعرفة وإعادة استهلاكها، وهو في أحسن حالاته يندرج في الصّناعة الفنية والشكلية، وتندر الأعمال العلمية ذات القيمة الإبداعية، الاستشرافية، التأسيسية لنظريات أو مقاربات جديدة، بينما ترسم مخابر ومراكز التفكير في العالم الغربي وجهة العالم لعقود من الزّمن المستقبلي.
- البحوث تتّسم في كثير من الأحيان بالسطحية، دون النفوذ إلى أعماق المشكلات العلمية بالاستقراء والنقد والتحليل والتنظير وتقديم الإضافة العلمية النوعية.
- أولويات البحث العلمي في ميدان العلوم الإسلامية، ناهيك بمجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ غير واضحة، وكثير من الجهود تُصرف فيما ليس من أولويات البحث، وربما فيما لا طائل تحته.
- ضعف حركة الترجمة، ونقل المعرفة التي يحقّق فيها الغرب مسارات متقدّمة جدّا من التحليل والنقد والتأسيس النظري لمعارف جديدة وغير مسبوقة.
- مكتبة المخطوطات الإسلامية ما زالت في المجمل حبيسة الرفوف والخزائن، وتفتقد إلى مشاريع مؤسسية مدعومة بالإمكانات المطلوبة لإخراجها والاستفادة منها.
وأمّا الجهود المشكورة، فمثل:
- بعض مراكز ومنصّات تكوين العلماء.
- بعض مراكز البحوث والنشر.
- مجامع الفقه الإسلامي التي تأسّست، وحرصت على مواكبة حركة النّوازل والمستجدّات.
- الموسوعات العلمية التي تم إنجازها، المطبوعة منها، والالكترونية.
- بعض المجلات العلمية الجادّة.
- بعض المؤلفات العلمية الوازنة.
- نماذج من الباحثين الجادّين.
إلاّ أنّ هذه الجهود ما زالت لم تحقّق التراكمية المطلوبة لتحقيق الإقلاع العلمي الشامل.
وإذا كان هذا حُكْمًا يشمل الحركة البحثية ككلّ؛ فموقع الفقه الكلّي من ذلك أسوأ، إذ ما في هذه الحركة البحثية أكثره ينصرف إلى الفقه التجزيئي، والمسائل الفنّية في العلوم المختلفة، وينبغي أن أنبّه أنّ التجزيئية وبحث المسائل الفنّية حركة طبيعية ومقبولة، وهي الأساس الأبرز لفهم الكلّيات الكبرى، من حيث إنّ الكليّ يقوم على استقراء وتتبّع الجزئيات، فمن لم يقف على الجزئيات بالاستقراء والتحليل؛ كيف يدّعي استخلاص الكلّيات وفهمها؟!
إذن فقه الجزئيات هو الذي يوفّر المادّة الاستقرائية لفقه الكلّيات، إلاّ أنّ محلّ النّقد أنّ الجهود التي توجّهت للعلوم التجزيئية أضخم من تلك التي تتوجّه إلى استخلاص الكلّيات وفهم طريقة عملها وتوظيفها، والواجب أن تكون هذه الحركة متوازنة في الظّروف الطّبيعية، أمّا في ظروف التراجع الحضاري؛ كالتي تعيشها الأمّة اليوم؛ فإنّ فقه الكلّيات يجب أن تميل إليه الكفّة؛ لأنّه الكفيل بفهم المساقات الكبرى التي يتعيّن سلوكها لاستئناف الدّورة الحضارية. وإذا كان كذلك؛ فإنّ ما يكتب اليوم في فقه الكلّيات يمكن وصفه بأنّه ضعيفٌ كمًّا ونوعًا.
مع ما ذكرناه من الحصيلة التي هي دون مستوى التراكم المحقّق للإقلاع؛ يمكن الإشارة إلى الجهود المشكورة، التي يتعيّن على الأمّة اليوم أن تنحو نحوها بمزيد من المراكمة، والمقصود هنا العمل الفكري والفلسفي في تأصيل المساقات النظرية الكفيلة بتحقيق النهضة، وأيضًا ما أذكره هو نماذج مختارة في حدود اطّلاعي وتقديري المتواضع أنّها أدّت دورا محترما في التأثير وريادة الحركة التجديدية للأمّة، أو كونها مرشّحة لذلك في المستقبل، مع كونها تحمل مقاربات تندرج ضمن المسارات والتوجهات الصحيحة التي يتعيّن على الأمة سلوكها، بخلاف جهود أخرى تطوّح بنا في الاتجاه المعاكس:
- سلسلة كتاب الأمّة،الصّادرة عن وزارة الأوقاف القطرية، والتي صدر منها 171 عددًا، منذ سنة 1402ه إلى سنة 1437هـ، فقد كان نموذجا للبحوث الجادة، المندرجة ضمن غاية استنهاض وتجديد العقل الإسلامي.
- إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، والتي يناهز عددها 400 إصدار منذ سنة 1981م، بالإضافة إلى مجلّتيه البارزتين، مجلة إسلامية المعرفة، ومجلة association of muslim social scientists.
- جهود فردية لبعض القامات العلمية والفكرية الكبيرة أذكر منها في مغربنا الإسلامي: الطيّب برغوث الجزائري، وعبد المجيد النّجار التونسي، وطه عبد الرّحمن المغربي.
- الأستاذالطيب برغوث:
الجامع بين دراسة علم الاجتماع الثقافي، ودراسة مناهج الدعوة، والذي يعدّ من رموز الحركة الفكرية والإصلاحية في الجزائر، المهتمّ بنظريات الفعّالية الحضارية من منظورها الإسلامي السنني الإنساني الكوني المتكامل.
يقدّم نظرية سننية للتغيير والإصلاح الشّامل، تتأسّس على قانون: «التدافع والتجديد»، فالتدافع هو سنّة العلاقات البينية بين البشر، والتجديد هو سنة أصالة وفعالية واطرادية هذا التدافع إذا أريد له أن يبلغ غايته من التداول على القيادة الحضارية.
ويرى بأنّ حركة الصيرورة الحضارية للمجتمعات البشرية، تتحكّم فيها: منظومات سنن الابتلاء والتدافع والتداول والتجديد من ناحية، ومنظومات سنن الآفاق والأنفس والهداية والتأييد من ناحية أخرى.
وأنّ عمق الأزمة الحضارية ثقافي تربوي أخلاقي منهجي، قبل أن يكون سياسيا فنيا، أو اجتماعيا اقتصاديا مفتعلا.
وأنّ الخروج من الأزمة يحتاج تغييرا في العمق لا في السطح: تغييرًا في النّفس؛ أي في الفكر والروح والمنهج والسلوك والأداء الاجتماعي، لا تلوينا ممجوجا في الواجهات، وتبادلا للأدوار على نفس الأرضية الفكرية والأخلاقية والتربوية والمنهجية المهترئة البئيسة.
وأنّ التغيير السياسي والاجتماعي والحضاري، الذي لا تحكمه ولا تقوده الفكرة، ولا تتحوّل فيه الفكرة إلى تربية روحية وسلوكية ومنهجية، ولا يتحوّل فيه ذلك كلّه إلى رسالة جماعية مشتركة، ينهض بها الجميع في المجتمع، تغيير سطحي آني لا أفق له ولا قيمة.
وغيرها من الأفكار القيمة، التي تندرج ضمن الفكر الحضاري الذي أسّسه مفكّر القرن: مالك بن نبي رحمه الله، من خلال ندواته الفكرية مع نخبة من الطلبة في الجامعة الجزائرية منذ البدايات الأولى للاستقلال. والذي تخصّص بشكل كامل في تحليل المسألة الحضارية، والتماس حلول الأزمة الحضارية التي تعيشها الأمة منذ قرون، واستمدّ قوة تحليله من الاطّلاع على التحليل التاريخي والاجتماعي للحضارة الغربية والإسلامية على حدّ السواء، ما مكّنه من معرفة نقاط القوة والضعف في كلّ منهما.
وتنقسم كتابات الأستاذ الطيب إلى مرحلتين:
مرحلة التأسيس والتنظير لتصوّراته حول مسائل البناء الحضاري، والتجديد الحضاري للأمة، مركّزا على العمق الدعوي لحركة التغيير والبناء. وتمثلها كتاباته في سلسلة مفاتيح الدعوة.
ومن كتب هذه المرحلة:
- القدوة الإسلامية في خط الفعالية الحضارية.
- الواقعية الإسلامية في خط الفعالية الحضارية.
- الدعوة الإسلامية والمعادلة الاجتماعية.
- التغيير الإسلامي خصائصه وضوابطه.
- معالم هادية على طريق الدعوة.
- الخطاب الإسلامي المعاصر وموقف المسلمين منه.
- موقع المسألة الثقافية من استراتيجية التجديد الحضاري عند مالك بن نبي.
- المنهج النبوي في حماية الدعوة ومنجزاتها في (جزأين: ماجستير + دكتوراه).
ومرحلة الإنضاج والتعميق لنظريات البناء والتدافع والتجديد الحضاري، مركّزا على العمق المنهجي والسُنني والتربوي والثقافي للفعل الحضاري المطلوب لإصلاح الأمّة وتجديد الوعي، والفكر، والسلوك، والشخصية، والثقافة، والأمة، والحضارة، ومناهج ووسائل الفعل والإنجاز. وتمثلها كتاباته في سلسلة دراسات في الوعي السنني.
ومن أهمّ الكتب التي تعبّر عن هذه المرحلة الثانية:
- الفعّالية الحضارية والثقافة السُننية.
- التجديد الحضاري وقانون الواقعية.
- مدخل إلى سنن الصيرورة الاستخلافية: قراءة في سنن التغيير الاجتماعي.
- التغيير الحضاري وضرورة المنهج.
- الأبعاد المنهجية لإشكالية التغيير الحضاري.
- الفعالية الحضارية والثقافة السننية.
- التغيير الحضاري وقانون النموذج.
- الأستاذ عبد المجيد النجّار:
تعدّ كتابات الأستاذ النجّار في تقديري من الإسهامات الرائدة في مجال الفكر الحضاري، وقد جمع بين الدراسة المتخصّصة في أصول الدّين، وبين سعة الاطّلاع على الجانب التشريعي والمقاصدي، زيادة على الحركة النّضالية السّياسية، ما أكسبه هذه الخبرة والمعرفة المتعمّقة، وأهمّ كتبه في ذلك:
- في فقه التديّن فهمًا وتنزيلاً.
- خلافة الإنسان بين الوحي والعقل: بحث في جدلية النص والعقل والواقع.
- مقاصد الشّريعة بأبعاد جديدة.
ثمّ مشروعه الفكريالنهضوي الذي صاغه في ثلاثة كتب:
- فقه التحضّر الإسلامي.
- عوامل الشهود الحضاري.
- مشاريع الإشهاد الحضاري.
- الأستاذ طه عبد الرحمن:
ولعلي أحيل في هذا العنصر إلى مقال الأستاذ بدران بلحسن، بعنوان: إلى متى نتجاهل أهمية مشروع طه عبد الرحمن الفلسفي؟! الذي ذكر فيه المعالم الكبرى لهذا المشروع المهم، وهي:
- التأسيس النظري لليقظة الدينية.
- التأسيس لفلسفة أخلاقية إسلامية.
- نقد مشروع الحداثة.
ويخلص إلى القول: (إنّ هذه الأبعاد الثلاثة في فكر طه عبد الرحمن، وغيرها من الأبعاد لتمثل زادا معرفيا مهما للإبداع الفكري والفلسفي الذي تتطلبه أي جهود للنهضة وتحقيق النهوض الحضاري الإسلامي المبدع، بعيدا عن الهجرة في التاريخ أو الوقوع في “القابلية للاستعمار” الفكري والسياسي والأخلاقي للحضارة الغربية.ولهذا وجب الانتباه لهذا الفكر ولهذا المفكر الفيلسوف الذي ينهل من نبع النبوة بكل تميز واقتدار غير مسبوق، وكفانا تجاهلا للمبدعين في هذه الأمّة).
دكتورنا الفاضل: لا شك أن الفقه الحضاري للأمة متوسل بكليات الشريعة القطعية، في نظركم ما هو حجم حضور إعمال هذه الكليات في الاجتهاد والفتوى وخاصة في الوقت الراهن الذي يشهد تفجرا من المستجدات وتواتر النوازل؟
بالسّؤال عن فقه النّوازل والمستجدّات؛ نكون قد رجعنا إلى المفهوم الفنّي والتخصّصي للكلّيات في سياق الاجتهاد الفقهي، وحضور الكلّيات التشريعية في الاجتهاد في واقع الأمّة في العقود الأخيرة؛ بحسب ملاحظاتي الخاصة؛ يشهد استفاقة وعودة ميمونة، بعد أن مرّت بالأمّة مرحلة اللامذهبية من جهة، والمذهبية الجامدة من جهة أخرى، وأظنّ أنّ الهيئات العلمية العالمية، مثل: المجامع الفقهية، ومجلس الإفتاء الأوروبي، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ناهيك بالهيئات المحلّية ولجان الفتوى في كلّ بلد من البلدان الإسلامية؛ لم تجد مناصًا من اعتماد فقه الكلّيات والمقاصد للتصدّي لمشكلات النّوازل العويصة، وقد شاركتُ قبل عشر سنوات في ندوة الحجّ بالمملكة السعودية، فتفاجأت بالتغيّر الكبير على مستوى الفهم والخطاب الفقهي الذي تبنّاه الأساتذة والباحثون السعوديون في باب المقاصد، بعدما كان الفقه المقاصديّ محلّ توجّس أو رفض منهم في القرن الماضي، حيث لم يجد القائمون على شعيرة الحج بُدًّا من الفقه المقاصدي للتغلّب على المشكلات العويصة في مسائل الحجّ، فما بالك بأبواب المعاملات ومشكلات المجتمع والاقتصاد؟
وأيضا حدثت حركة انتقال كبيرة للأساتذة المغاربيين للتدريس في جامعات السعودية والبلدان المجاورة لها؛ أظنّ أنّها كانت ذات أثر كبير في إزالة تلك التوجّسات، وتعديل المفاهيم الفقهية، إضافة إلى حركة النشر الورقي والالكتروني، وسهولة الاطّلاع على الإنتاج العلمي عبر المنصات الالكترونية المختلفة.
- بمناسبة ذكر الكليات، معلوم أن لفضيلتكم كتابا في الموضوع، هلا عرفتم القراء به، وطفتم بنا حول أبرز محطاته، والإضافات العلميةالقيمة التي قدمها للساحة المعرفية؟
هذا الكتاب هو أطروحة الدكتوراه التي تخرّجت بها من الجامعة الأردنية سنة 2012م، وقد نشر من طرف المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سنة 2016م. وهو نابع من تجربة المعاناة مع منهج الفقه التجزيئي، الظاهري، الذي طغى على الساحة الفقهية خصوصا في العقود الأخيرة من الألفية الماضية، حتى تشكل لدينا همّ بضرورة المعالجة المنهجية لهذه الأزمة الفكرية، وكنت قبل ذلك كتبت في السياق ذاته حول القواعد الحاكمة والمحكمة في الخلاف الفقهي، حيث كانت رسالتي في الماجستير بعنوان (محتكمات الخلاف الفقهي)، وهي أيضا مطبوعة من طرف دار البشائر الإسلامية.
واستهدفت من خلال دراستي عن الكليات التشريعية بيان حقيقة الكلِّيات التشريعية، وأنواعها، ومراتبها، وخصائصها، ومسوِّغاتها، ومكانتها في النسيج التشريعي: الكتاب والسنة وفقه الصحابة y، والمدارس الفقهية الأربعة، وكذلك بيان الوظائف النظرية المنوطة بالكلّيات التشريعية (وهي الوظيفية التفسيرية، والوظيفة الترجيحية، والوظيفة الإنشائية، والوظيفة التطبيقية)، وكيفية تأثيرها على الاجتهاد والفتوى، مع استخلاص الضوابط المنهجية لذلك، ثمّ إعطاء نماذج تطبيقية عديدة؛ ربطاً بين النظرية والواقع العملي.
ولعلّ هذا المبحث؛ وهو الوظائف والضوابط؛ هو الثمرة العملية التي حاولت فيها تقديم إضافة في طريقة العمل بهذه الكلّيات، دون انفلات من منهجية الفقه التي تأسست في التراث الفقهي من خلال المذاهب الفقهية، والمناهج الأصولية.
كما حاولت أن أقدم نماذج تطبيقية عديدة لفقه المسائل في ضوء هذا المنهج.
- لا شك أن البحث في الفقه الكلي الحضاري للأمة، لا يخلو من فجوات بحثية متنوعة تحتاج جهدا جهيدا للإجابة عنها، فهل يمكنكم الإدلاء بمقترحات لمشاريع بحثية تكون لها آفاق زاخرة في إثراء وتطوير مستقبل البحث في الفقه الكلي الحضاري للأمة ؟ وما مدى درجة أولوية البحث فيها؟
الكليات التشريعية بالمفهوم الفقهي والأصولي؛ باب رحب للدراسة والبحث، ومن ذلك:
- بيان موقعها في الاجتهاد التراثي في المذاهب المعتمدة، لا سيما المذهب المالكي، ولا سيما الاجتهاد النوازلي، لنزيل الوحشة عن هذا المفهوم، ووظائفه، ولنبيّن أنّه منهج عريق عند فقهائنا الراسخين، وليس شيئا نبتدعه في هذا العصر، إنّما ننفض عنه الغبار الذي تراكم عليه.
- دراسة الموازنات والتداخلات بين الكليات، وأيها أقوى تأثيرا على الجزئيات محل البحث، فإنه ما من جزئية تفرض إلّا والكلّيات تتجاذبها من جهات مختلفة، باعتبارات مختلفة، والمختلفون يدّعي كلّ منهم أنّ قوله أحظى بالنّظر الكلّي، فالمسدّد من يعمل معايير الموازنة والترجيح على وجهها الأدق، فنحتاج إلى استخلاص تلك المعايير، وتدقيقها قدر المستطاع، لتكون قوانين منهجية حاكمة على هذه العملية.
- أيضا من المشاريع المفيدة في هذا الباب: العمل على إعادة الصياغة لعلمي أصول الفقه، ومقاصد الشريعة، على نحو يجعل لكل منهما وظيفة محددة، مع التكامل بينهما، فإن هذه الدعوة منذ أطلقها الإمام الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة؛ لم تتجسد بعد على مستوى الإنجاز، مع وجود خطوات ممهّدة نحو ذلك.
- وعطفا على ما سبق، وفي ضوء التجارب الأكاديمية المتنوعة لفضيلتكم ( إدارة – إشراف – تأطير – توجيه) فما هي خلاصة رؤيتكم التي تقدمونها إلى الجامعات –شعب التخصص- والمراكز العلمية من أجل النهوض بالفقه الكلي الحضاري في العالم الإسلامي عامة؟ وما مدى استشرافكم لمستقبله داخل الصرح الأكاديمي خاصة؟
أوّلاً: في تقديري ينبغي أن يتفق الأكاديميون والقائمون على مؤسسات التعليم في الوطن العربي والإسلامي؛ أنّ التعليم الدّيني يحتاج إلى وقفة للإصلاح والنظر التجديدي في الغايات والمناهج والأدوات، وينبغي أن تقف وراء ذلك إرادة مجتمعية وسياسية صادقة.
ثانيا: أمّا بخصوص الرؤية؛ فلتقم حلقات دراسية ونقاشية بين المتخصّصين في كلّ بلد، أو هيئات مشتركة بين بلدان متعدّدة لدراسة هذا الموضوع، وتقديم مختلف المقاربات، من أجل التوصّل إلى مقاربة أو أكثر، يتمّ تجربتها والعمل على تطويرها بالتدريج. ولا أزعم أنّني أملك رؤية جاهزة في ذلك، لكن قد أشارك في تقديم معالم وخطوط عريضة، نعمّقها شيئا فشيئا، وقد سبق لي أن قدّمت جوابا على استشارة من هذا النوع لإحدى مؤسسات التعليم الديني المستجدة في بلادنا، ضمّنته ستة معالم للنموذج الذي ينبغي أن يتخرّج من مؤسسات التعليم الشرعي، وهي:
المعلم الأوّل: بناء الملكات العلمية وتفعيلها.
المعلم الثاني: تكوين العالم المتفنّن (متعدّد المعارف)، بدل العالم ذي التخصّص المجهري.
المعلم الثالث: تجسير الصلة بين العلوم الشّرعية والعلوم الغربية.
المعلم الرابع: الشغف بالبحث العلمي والتمكّن من مهاراته.
المعلم الخامس: التعرّف على منهجيات التفكير والتدرب على ممارستها.
المعلم السادس: بناء المهارات التواصلية.
وتحت هذه المعالم بعض التفاصيل والتوضيحات التي لا يسع المقام لبسطها، كما أقترح أن تكون فترة التكوين بعد مرحلة (الليسانس) هي:7 سنوات (5 سنوات دراسة وتدريب + 2 سنة للتخرج بمشروع بحثي أو تطبيقي)، وهي الفترة المعادلة لدراسة تخصص الطب مثلا.
ومن بين المقترحات: أن تعتمد منهجية التعليم على عدة طرق مختلفة، منها:
- التعليم الرقمي: أي التعليم من خلال منصات الكترونية معتمدة، يكون بينها وبين الجامعة اتفاقية تعاون، حيث يحال الطالب على تحصيل بعض المواد من تلك المنصات في وقته المفتوح.
- التعليم التفاعلي: يكون في شكل نقاش مفتوح، أو بحوث مشتركة بين الأستاذ والطلاب.
- التعليم البحثي: حيث يحال الطالب على تعلم المادة بالبحث، مع التقويم.
- التعليم بالإلقاء: وهو الذي يتم فيه إلقاء الدرس والمحاضرة، وتكون مشاركة الطالب هي الأقل. ومن الأفضل أن تكون نسبة هي الأقل من بين الأنواع الأخرى.
وأيضا: أن يكون التعليم تعاونيا بين مؤسسات علمية ذات مصداقية في العالم الشرقي والغربي على حد سواء، سواء في التعليم الرقمي، أو في استيداع أساتذة، أو في بعض الطلاب لزيارات أو تربصات علمية قصيرة … ونحو ذلك من أشكال التعاون. مع ضرورة توفير البيئة العلمية والابتكارية المناسبة.
وهذه المعالم لا تعالج فقط إشكالية الفقه الكلي والحضاري، بل إشكالات أخرى عديدة، نرجو أن تجد هي والمقاربات المماثلة طريقًا إلى التجسيد.

[1] د. محمد هندو:أستاذ بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية (سابقا)، وأستاذ محاضر بجامعة محمد آكلي ولحاج، ومدير مؤسسة أصالة للدراسات والاستشارات، نشرت له العديد من الكتب منها: الكليات التشريعية وأثرها في الاجتهاد والفتوى، المقتضيات العلمية للعقيدة الإسلامية، والقيم الحضارية وأثرها في بناء الأمم.
[2] د. محمد قاسمي:دكتوراه في الفقه وأصوله.
[3] د.يوسف عكراش: باحث في التفسير وعلوم القرآن.
كل التوفيق